مواضيع اخبارية

الثورة العربية

                      في أواخر عام 2010 ومطلع 2011 اندلعت موجة عارمة من الثورات والاحتجاجات في مختلف أنحاء الوطن
العربي بدأت بحرق الشاب التونسي محمد البوعزيزي لنفسه واشتعال الثورة التونسية التي أطلقت شرارة الاحتجاجات في كثير من الأقطار العربية وعرفت تلك الفترة بـ"ربيع الثورات العربية". وانتشرت الاحتجاجات بسرعة كبيرة في أغلب البلدان العربية، وتضمنت مواجهات بين قوات الأمن والمتظاهرين ووصلت في بعض الأحيان إلى وقوع قتلى بين صفوف المتظاهرين ورجال الأمن.

يبدوا أن الكثير من الحبر العربي تم سكبه على هوامش ثورة الشباب في العالم العربي والتي يطلق عليها البعض "خريف الثورة العربية" كمحاولة منهم لإعادة إنتاج الصور النمطية التي طالما غلف "الآخر" الغربي بها "الذات" العربية عند محاولة  فهمها أو بالأحرى سوء فهمها. لأن الغرب لم يحاول أبدا فهم الذات العربية خارج حدود ذاته الضيقة والمتعالية بسبب المركزية الذاتية الثقافية والتاريخية والسياسية والتكنولوجية.....

هذا التعالي أو لنقل "الغيرية" في الخطاب السياسي الغربي حول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تمت زعزعتها بسبب الثورة الشبابية التي تتخذ من الإعلام ووسائل التكنولوجيا الحديثة وسيلة لفهم الذات الجريحة والمنهكة من "القومية" و"الايدولوجيا" خارج حدودها و كذلك تجاوز الآخر في عمق خطوطه الفاصلة بين زيف التصور وحقيقة واقع التحول السياسي والاجتماعي والديمغرافي الذي يمر به العالم العربي من موريتانيا إلي البحرين، من المحيط إلي الخليج....

أنا هنا لا أحاول وضع نظرية جديدة ولا أسعى إلي الدخول في إعادة اعتبار الأسس الفكرية والسياسية والأخلاقية التي طالما نظر الغرب من خلالها إلي الشعوب العربية، بل سأسعى من خلال هذا المقال إلي ربط التحول أو "الثورة" كما يحب البعض تسميتها بالارتباك السياسي الذي بدا واضحا وجليا في الخطاب السياسي للغرب في علاقته مع الشباب العربي الثائر الذي لا ولن يرضى بأقل من تحطيم الأصنام السياسية وإحلال معايير جديدة ستفرض بدورها بناء علاقة من نوع مختلف من جهة وتفكيك التناقض الدفين والصامت بين الشباب والحكومات المحلية التي كان يفترض أن تموت منذ القرن الماضي...

أعتقد أنه من الخطأ أن يحاول بعض الكتاب العرب، خصوصا من الدول التي لم تشهد الثورة بعد مثل موريتانيا، التنظير لتحولات الثورة الجذري في الذات العربية دون التريث والوقوف على المعطيات السياسية والديمغرافية والاقتصادية التي ترسم معالم المرحلة الحرجة التي تمر بها المنطقة العربية. لفهم الثورة والكتابة عنها يلزمنا أولا محاولة فهم المسلك الآخر الذي يريد الشباب العربي أن يسلكه ليقوم بقطيعة جذرية مع الماضي القريب واستشراف المستقبل البعيد....

إذن، هذه الثورة الشبابية وليست بالضرورة "العربية"، لأن نعتها بالعربية فيه نوع من تضييق أفقها وتحميلها بشحن من القومية المتعفنة والايدولوجيا الطبقية والعرقية التي ماتت و يجب أن تختفي لنفهم حالة التحول أو الثورة التي نمر بها اليوم في عالم أصبح كل شيء فيه متصل بشكل لا يسمح للعرب أو الذات أن تعيش في التناقض مع الآخر ، هذه الثورة هي تحول في الأخلاق والأدبيات السياسية وإعادة لكتابة التاريخ السياسي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا....

في عالم كالذي نعيش فيه اليوم وكشباب نطمح للتفاعل الايجابي مع الإنسان بغض النظر عن انتمائه ولغته وعرقه، لابد أن نتجنب الحديث عن "العروبة" والهرطقات الفكرية الأخرى. لأن الإنسان هو جوهر العالم. والشباب اليوم في العالم العربي أصبح يعي جيدا هذا البعد الإنساني الذي لا ينفي بالضرورة كوننا عربا أو أعجما، بعبارة أخرى، أصبح العالم اليوم بوتقة أو وعاءا أو "فضاء ثالث" ثقافي وسياسي يسمح بالتفاعل الايجابي بين جميع الحضارات في تجاوز تام للتقابلات المادية والمعنوية بين الذات والآخر....

لذلك من المؤسف أن نجد بعض الكتاب العرب اليوم يحاول الترويج لأفكار متجاوزة من قبيل "نظرية المؤامرة" و"نهاية التاريخ" أو صراع الحضارات"، فهذه الأفكار تم تجاوزها في الغربي منذ زمن. فكما كانت نظرية سمويل هنتكتون عن "صراع الحضارات" في 1993 قراءة عكسية لنظرية فرانسيس فوكوياما "نهاية التاريخ والإنسان الأخير" في عام 1989 وكما تم دحض النظريات الغاضبة والانتقائية لبرنارد لويس حول "الإسلام الغاضب"، فإن نظريات التفاعل الثقافي والتبادل الحضاري بين الغرب والإسلام والعرب قد أثبتت نجاحها ونجاعتها في تقليص سوء التفاهم الحضاري بين الذات والآخر....

هذا التفاهم الذي مازال بعض العرب و"المفكرين" القوميين يرفضونه خوفا من أن تبور تجارتهم وتتحطم الجدران الوهمية العازلة على رؤوسهم. لكن يجب أن يفهم هؤلاء العرب الذين يكتبون عن الثورة الشبابية اليوم أنها ليست ثورة على الحكام فقط لكنها أيضا جاءت لكسير وتجاوز كل الأفكار الداعية إلي سجن الذات في قفص فكري ضيق وحرمانها من التحليق في رحاب العالم الفسيح والذي أصبح قرية كونية لا حدود فيها ولا فصول تفصل سنوية تمنع التجانس.....

أنا لا أدعوا أبدا إلي إلغاء الذات في العلاقة مع الغرب، لكني أيضا لا أقول بتحميل الآخر الخطيئة التاريخية وجريمة التخلف التي لكالما آمنت بها الأجيال الفكرية السابقة وعملت الحكومات العربية على تفعيلها لتهمش الأجيال الصاعدة وتربيتهم على كره الآخر واحتقار الذات....

فكما قال صديقي الأجنبي في رسالته التي بعث لي منذ يومين محاولا فهم هذا التناقض الجوهري في الخطاب العربي والتباين في المواقف من الغرب والقضايا العربية. كان طرحه لإشكال مربك بقولة :" من المستحيل أن نفهم شعوب العربية. عندما لا يتدخل الغرب يلومونه ويتهمونه بالخيانة, وعندما يتدخل يقول بعضهم إنه يريد سرقة النفط." ثم يضيف صديقي "أنا مقتنع ان الغرب متحيز في موقفه من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وأجزم أنه لم يكن عليهم احتلام العراق. لكن القذافي يقوم بمجزرة في ليبيا....."

بناءا على هذه الرؤية يمكن تلخيص بعض الملاحظات حول الفهم العربي للثورة الشبابية في صراعها مع الحكومات المزيفة:

--     الحكومات العربية بما في ذلك الحكومة العسكرية في موريتانيا حاولت دائما تهميش الشباب وتغييبه عن الساحة السياسة وجردته من الثقة كما حرمته من حقوقه سوى أنها لم تستطع منعه من التفاعل مع الآخر والخروج عن الحدود الضيقة للذات التواقة للتغيير والطموحة لتعيش بكرامة الإنسان ذو الأبعاد المتعددة....

--     إن العوالم الافتراضية وثورة الإعلام الاجتماعي قلصت الحدود بين الذات العربية ممثلة في الشباب الذي يملك الثقة في استخدام هذه الوسائل المتاحة من جهة والآخر الذي أصبح أكثر اهتماما بالتفاعل مع البشرية في بعدها الكوني. هذا التفاعل هو ما شجع الشباب العربي إلي وضع حد لحالة العزلة والاغتراب في أوطانهم من خلال الثورة وإسقاط الحكومات....

--      يسعى الشباب العربي (والعربي هنا وصف بالتاريخ والجغرافيا وليس المقصود بها العرق أو الانتماء أو التموقع الفكري) يريد إعادة كتابة التاريخ حسب معطيات جديدة لم تتضح معالمه بعد بالدرجة التي تسمح للبعض بقياسها على تصور قديم...

--    هذه الثورات والتحولات ستفرض على الغرب أو الآخر أن يعيد حساباته في التعامل مع المنطقة في المستقبل على المدى المتوسط والبعيد. إعادة ترتيب الأوراق ستفرض احتراما استثنائيا لمستقبل شعوب الجنوب والسماح لها بالخروج عن قوقعة التخلف والصور النمطية إن هي أثبتت استحقاق الحرية ....


--    الكثير من الكتاب اليوم يسابق الأحداث دون التريث والتأني في قراءة الأحداث والسياقات المستقبلية وهو ما أدى لكثير من الحكومات العربية والغربية ترتبك أمام الثورة التاريخية التي تحيد رسم الخريطة السياسية في المنطقة برمتها. لأن البون شاسع بين طموحات الشباب ورغبتهم في التغيير وتلك التي يملكها الذين لا ينتمون لمرحلة التحول فكريا وثقافيا....

إن دراسة وتحليل ثورة  لازالت تتلاحق يوما بعد يوم في صيرورتها التاريخية هي محاولة لرؤية ما وراء الأحداث واستشراف أفق المستقبل، ذلك أن استشراف الأفق المستقبلي و تسليط الضوء على بعض الملامح المتغيرة  لثورة "الشباب" في تونس ومصر وليبيا واليمن وإرهاصات امتدادها إلي باقي الدول المغرب العربية هي أشبه بتضميد جرح نازف. في هذا السياق يجب أن تسعى الكتابة عن ثورة الشباب إلي الإجابة عن بعض التساؤلات التي يطرحها هذا التحول الجذري الذي لازالت ضحاياه في ارتفاع كذا مشاعر الحنق والامتعاض في كل المنطقة العربية ترتفع كمؤشر على مستقبل قد يختلف عن الماضي الحاضر.....

من أهم المفاهيم التي طرحتها هذه الثورة على المحك، خصوصا بعد انتصارها في تونس ومصر، مفهوم "الدولة" في علاقتها مع "المواطن" أي علاقة الذات بذاته قبل تصور علاقتها بالآخر، حيث أن المواطن ظل خارج تركيز المشاريع التنموية للبلدان العربية وهو ما جعل الشباب يشعرون بالغبن والحرمان و التهميش في أوطانهم....

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق